أوتيل ترايونف | قصّة قصيرة

ياسر عرفات في بيروت 1982

 

كادت أن تطحنها طحنًا تامًّا. عشر خطوات فقط، فصَلتْ أمّ نضال عن قذيفة مزلزلة. ما أحنّها من خطوات!

لم تكن تلك المرّة الأولى ولا الأخيرة، الّتي كادت فيها فتحيّة أن تَفقِد حياتها. ومع ذلك، لم تكن لتهاب الموت، ولم تعبأ لخطورة الحرب، فقد كانت تردّد دائمًا: "لن أموت، مررت بظروف أسوأ في حياتي: طُرٌدنا من يافا عام (1948) حفاةً، عراة؛ هَزمَنا التشرّد والفقر، إلى أن هُزِمنا مرّة أخرى (1967)؛ وبقينا أحياءً عام (79)، بفعلِ الصدفةِ.  فلمَ القلق أو الخوف؟!". فتحيّة الّتي تتمتّع بجمال أخّاذ، وبعفويّة وإصرار يَزيدانها فِتنةً، وبجدّيّة في التّعامل تُكسِبُها جاذبيّة من نوع خاصّ، والمفعمة بحبّ الحياة؛ أرملةُ شهيد، وأمٌّ لأربعِ بنات، ما زلن بحسب تعبيرها: "بدهم فت عدس. عمِلَت بعد استشهاد زوجها في «مستشفى عكّا» (الجناح)، مسؤولة للشؤون الاجتماعيّة. زرعت في بناتها بذور الاستقلاليّة وتقديس العمل. وشعارها الدائم: العلم والعمل.

كان الاقتتال محتدمًا في عام (1982)، والصراع على أشدّه بين «منظّمة التحرير» والجيش الإسرائيليّ؛ الصراع الّذي راح ضحيّته الكثير، بين قتلى وجرحى. وكانت بيروت في حصار مُطبِق، ومن جميع الجهات، وسط أجواء من الرصاص المنهمر كالمطر، والقذائف الّتي إنْ لم تقتل، أفقدتِ الأطراف والأعضاء في أحسن الأحوال. وبجانب ذلك، لا ماء ولا كهرباء، وقلّة في الغذاء. وفي صورة كتلك، كان مستحيلًا على فتحيّة، أمّ نضال، أن تصل إلى مكان عملها. فقد أقلعت - خوفًا منها على مصير بناتها - عن محاولاتها للوصول إلى المستشفى، بعدما قدِمَتْ إحدى صديقاتها، سلوى، من الضاحية الجنوبيّة إلى رأس بيروت - شارع مدام كوري، على قدميها لتخبرها عن الأطبّاء والجرحى الفلسطينيّين، واللبنانيّين، الذين قُتِلوا بسلاح «القوات اللبنانيّة».

كانت الأوضاع آنذاك، تحتّم على المرء الثبات في مكان واحد، لتجنّب الخطر الدائم. لكنّ فتحيّة، الّتي لم تعتدِ الانتظار من دون القيام بعمل ما، والّتي كانت أكثر مَنْ تدرك مآسيَ الحروب، كانت مسكونة برغبة عارمة في تقديم المساعدة، إلى أن تحقّق مرادها بمحض الصدفة. ففي يوم من أيّام الهدنة، خرجت للتسوّق، وأخذت تجوب شوارع رأس بيروت لتتفقّد أحوالها، فاستوقفها بناءٌ مهجور من أربع طبقات، تكاد أن توشك يافطته المعلّقة فوق مدخله المغبرّ أن تسقط. قرأت الأحرف المتآكلة بفعل الصدأ: «أوتيل تريومف». عادت ملهوفة إلى بيتها، تسكنها فكرةٌ أعادت لها بعض الأمل، فاتّصلت على الفور بالدكتور فتحي عرفات، مسؤول «الهلال الأحمر الفلسطينيّ»، وهو الأخ الأصغر لياسر عرفات، لتخبره عن فكرتها: "وجدت المكان المناسب لإقامةِ مستشفىً ميدانيّ مؤقّت، وسأطلب من تلامذة «الجامعة الأميركيّة» و«الكلّيّة الأميركيّة» في رأس بيروت، أن يساعدوا في تنظيف المبنى، وسيتمّ ذلك في خلال يومين. لكنّنا بحاجة إلى أسرّة، وإلى معدّات الإسعاف الأوّليّ، وبعض الأجهزة الضرورية من «مستشفى عكا». وأردفت: "والأهمّ من هذا كلِّه، هو الموادّ الغذائيّة". تبنّى الدكتور فتحي الاقتراح، إذ وجد فيه حلًّا مناسبًا لاستيعاب أعداد الجرحى، الّتي تزداد يومًا بعد يوم.

لم يتوانَ أحد عن تقديم المساعدة، فهبَ الجميع للتّطوّع، بحماس غير مسبوق، وكلّ حسْبَ اختصاصه: أطبّاء، ممرّضات وممرّضون، طهاة. فقد كان ’الأمل‘، هو شعار تلك المرحلة. وزّعت أمّ نضال المهامّ على أكمل وجه، وضمن الإمكانات المتوفّرة. وكان لزامًا عليها أن تُشرِك بناتها؛ لأنّ الحرب لا تعرف الأعمار. حتّى ميس، الابنة الصغرى، والّتي كانت في السابعة، كان لها وظيفة، وهي تسلية الجرحى، عبر قصّ ما تحفظه من قصص ومرويّات عليهم. وما أن افتُتِح المستشفى، حتّى أخذت تتوالى أعداد الجرحى بما يُجاوِز قدرة الاستيعاب. وكان لبيوت رأس بيروت الفضل الأكبر في تأمين الوجبات الغذائيّة، ثلاث مرّات في اليوم. ولم يكن ثمّة ما يزعج أمّ نضال، سوى تصرّفات الدكتور فتحي. فبعد أن قلّ تقديم الوجبات الغذائيّة من العائلات المتطوّعة؛ لاشتداد الحصار ولتصعّد القتال، قرّر الدكتور فتحي إرسال المعلّبات لتكون طعامًا للجرحى. وهذا ما رفضته أمّ نضال رفضًا قاطعًا، وقرّرت الاعتماد على مصادر أخرى، مردِّدة: "مش رح أطعمي الجرحى معلّبات طالما موجود خضرة ولحمة بالبلد، من وين؟ أنا بعرف المصدر، بس بدها زلام".

مرّت الأيّام مسرعة، وكانت محفوفة بالمخاطر والآلام، واستمرّ المستشفى لثلاثة أشهر، لم يتذمّر فيها أحدٌ من المتطوعين. وفي فجر أحد الأيّام، وصل جريح من نوع آخر، غير ما اعتاد المستشفى مداواته؛ جريح لم يفارق ذاكرة ميس حتّى الآن. فلم تنسى ابنة السبعة أعوام ذلك الجريح الّذي لم يقوَ حتّى على التجاوب مع فتاة في مثلِ سنِّها. إنّه صالح، شابّ في الثانية والعشرين من عمره. يملأ أروقة المستشفى بصراخ أيقظ الجرحى والمتطوّعين، بعويل أقوى من صوت القذائف المنهمرة مثل حبّات المطر. يستحيل لمسه؛ فلم يبق من جسده المحترق كالحطب، إلّا وجه كالمصباح، من شدّة وسامته ودقّة تفاصيله. ملامح خشنة، لكنّها متقنة. لم يتحرّك، ولم يتكلّم مع كلّ براعة ميس في سرد القصص. والأسوأ من هذا وذاك، لم يكن يأكلُ إطلاقًا. يتّجه بعينيه إلى السقف، كأنّ خيطًا يشدّهما عاليًا، كفّاه إلى الأعلى، مسافة قصيرة بين رجليه، وكأنّه صُلِبَ على سريره. مضى أوّلُ يوم بصعوبة بالغة، أنين متواصل. أنينٌ في اليوم الثاني، وامتناع عن الطعام. هدأ الأنين في اليوم الثالث، بعد حُقَن مُسكّنة، ولكنّه، ومع كلّ المحاولات، ما يزال ممتنعًا عن الأكل، لا يستطيع أحد أن يقنعه أو حتّى أن يرغمَه على الطعام. وفي اليوم الرابع، فقدت أمّ نضال صوابها؛ فقد بدا فاقدًا للأمل ومستسلمًا لليأس، لم يتكلّم، ولم يعد يصرخ، عيناه محنّتطان، ويحدّق في سقف الغرفة، كمن يفكّر في إنهاء حياته. لن تتركه للموت.

اتّصلت أمّ نضال بعد جهد متواصل، بفتحي المعروف بفتحي البحريّة، مساعد ياسر عرفات ومرافقه الشخصيّ، قائلة: "لن أدع صالح يموت، هدا الشابّ يائس، واذا ما أجى أبو عمار وزارو، رح يأثّر على معنويّات باقي الجرحى. أرجوك".

في اليوم التالي، وفي الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وقفت سيّارة سوداء أمام مدخل الأوتيل، ترجّل منها عدّة مسلّحين، وخرج ’الختيار‘ من الباب الأماميّ، بكلّ خفّة وإصرار، يلبس قبّعته، ويحمل بيمينه سلاحه. لم يلبث أن تخطّى بضْع درجات حتّى صاح بصوت ثابت: "أمّ نضال، أمّ نضال". خرجت على عجل من المطبخ، مبتسمة، فرحة: "أبو عمار!"، صرخت مبتهجة: "ماما اجى! ماما انزلي". ناديت بأعلى صوتي. عانقني، قبّلني، وقال ضاحكًا: "ازيّك يا مقصوفة الرقبة؟ وحشاني!". نزلتْ أمّي بسرعة فائقة، واستقبلت أبو عمار: "أهلًا وسهلًا، من هون، اتفضّل".

- "الله يعطيكي العافية يختي، معاي عشر دقايق بس، انت عارفة وجود خطر عليكم"، قال صاعدًا درجتين درجتين.

- "فين يا أمّ نضال، فين صالح؟"، قال متوتّرًا.

- "من هون، هيّو، هيّو صالح"، أجابت بسرعة.

- "الحمدلله على سلامتك يا حبيبي"، قال أبو عمّار، وبدأ يقبّل جبهته، وساعديه المحطّمتين، والبسمة تتوسّط وجهه.

- "ايه يا صالح، مش عايز تكمل القتال معانا؟ أهلك بيسألو عنّك، أقلّهم ايه؟ صالح جبان ومش عايز يقاتل؟ يلا يا حبيبي، ما فيش وقت، فين الأكل؟ أنا حطعميك بإيدي، في شوربة؟ يلا بلاش دلع يا حبيبي، أنا عايز جدعان".

لم يصدّق صالح عيناه، وكأنّه في حلم. وتكلّم لأوّل مرّة، بصوت مختنق، كأنّ طاقة سحريّة تلبّسته:"أأأأبو عمممار..."، حاول أن يرفع رأسه وكتفيه لرؤيته، أخفى ألمه، وقال والدموع في عينيه:"الحمدلله، أنا منيح".

- "طيّب يا بطل، كول شوي، ايوا، ايوا ممتاز. عايزك تتغذّى وتسمع كلام أمّ نضال، اتّفقنا؟".

- "حاضر"، أجاب بتبسّم المكابر.

لم يكد أبو عمّار يغادر الغرفة، حتّى علت أصوات الجرحى:"أبو عمّار، أبو عمّار بدنا نشوفك"، فتوجّه مهرولًا إلى الغرف الأخرى، يرفع علامة النصر:"يلا يا اخوانّا، شدّو الهمّة، النصر قريب، عايزكم معايا، ترفعو راسي". ويقول موزّعًا القبلات عن بعد:"مستنيكم، إلى اللقاء". توجّه كالبرق نحو الدرج، وأصوات الجرحى تهتف من خلفه:"ثورة ثورة حتّى النصر". ينزل بسرعة الريح، تتبعه أمّ نضال، وكادت أن تتعثّر عدّة مرّات، من بين المرافقين والعاملين، وأصوات الخطوات الّتي تتعالى لتهدأ آخر درجة.

- "ممتاز، شكرًا يا بنتي، عايزة حاجة؟".

- "طلبت من الدكتور فتحي خضار وفاكهة طازة ولحمة أو دجاج، بعتلي معلّبات، أنت بتعرف انو هذا بعيق الشفاء، لو سمحت، أمّنلي ياهم إذا في مجال".

- "فتحي قلّك كده؟ يا شيخة، الله يحرقه! حبعتلك كلّ حاجة بسيّارتي كلّ يوم، ماشي؟ السلام عليكم". صعد إلى سيّارته واختفى. هدأت العاصفة، وهدأ صالح، والتزم بوعده، مقاسيًا على حروق النابالم الّتي حفرت جسده.

لم يكفّ قطّ، عن الحديث عن تلك الزيارة الّتي أنقذت حياته، وظلّ يردّد كلّما قابل متطوّعًا جديدًا:"قالولك انو أبو عمّار أجى خصوصي يزورني؟ بستناني، لازم أطيب بسرعة". تفاعل جسده مع العلاج، وأخذ يواظب على الأكل والشرب، وعلى سماع قصص ميس بقدر استطاعته. وتحسّنت حالته بعد أسبوع بشكل لافت، ربّما بجرعة أمل من ’الختيار‘. ودأب الأطبّاء يعالجونه بما توفّرم ن أدوية، إلّا أنّ إصابته كانت صعبة الشفاء. فعادت حالته للتراجع، وكثرت الالتهابات. هزمه النابالم، ولكنّه لم يتمكّن من تفاؤله بعد «الزيارة الخاصّة»، ففقارق الحياة مبتسمًا، وفخورًا بقصّته.

 


 

رائدة طه

 

 

 

ممثّلة، كاتبة، وناشطة فلسطينيّة. تشغل عضويّة مجلس إدارة «مؤسّسة غسّان كنفاني الثقافيّة»، وتولّت منصب السكرتيرة الصحفيّة للرئيس ياسر عرفات.